ماذا يعني إكتشاف الغاز البحري للقاهرة ؟

في 30 آب (أغسطس) الفائت، أعلنت شركة الطاقة المملوكة للدولة الايطالية “إيني” إكتشاف حقل غاز “عملاق” قبالة السواحل المصرية. وفقاً لتقديرات أولية، يحتوي حقل “زهر” على 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي (أي ما يعادل 5.5 مليارات برميل من النفط)، الأمر الذي يجعله أكبر إكتشاف غاز حتى الآن في البحر الأبيض المتوسط. وهذا الإعلان كان من الأخبار الطيبة بالنسبة إلى أزمة الإقتصاد الهش والوضع السياسي في مصر. كما أنه يخلق تحديات وفرصاً جديدة لجيران البلاد والقوى الخارجية مثل فلاديمير بوتين. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يوفّر حوافز إقتصادية قوية لإعادة توحيد قبرص.

1441039045383556300

القاهرة – هدى أحمد

حقل “زهر” هو الأحدث في سلسلةٍ من إكتشافات الغاز البحرية الكبيرة في شرق البحر المتوسط. في عامي 2009 و2010، إحتفلت إسرائيل بإكتشاف حقلي “تمار” و”الطاغوت”، اللذين يحتويان معاً على حوالي 26 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي. متاخماً لحقل “الطاغوت”، في المنطقة الإقتصادية الخالصة لقبرص، يقع حقل “أفروديت” الذي يحتوي على نحو 7 تريليونات قدم مكعبة، والذي إكتشف في العام 2011. وحالما يتم تطوير هذه الحقول، فإن ودائعها يمكنها أن تلبّي إحتياجات البلدين من الكهرباء المحلية لعقود وفتح فرص جديدة للصادرات.
في حين أن جيرانها كانوا يشهدون طفرة الغاز، كانت مصر تغرق في أوقات صعبة. تاريخياً، ثاني أكبر منتج للغاز في أفريقيا، مع 77 تريليون قدم مكعبة من الإحتياطيات المؤكدة، أصبحت بلاد الفراعنة في السنوات الأخيرة مستورداً صافياً. ومع هبوط الإنتاج الذي لم يعد قادراً على مواكبة النمو السريع للطلب المحلي، وإضطرابات سياسية بطّأت التنقيب والإستثمار، فقد شهدت البلاد إنقطاع التيار الكهربائي العادي. ولأن سقوط نظامي حسني مبارك ومحمد مرسي حدث خلال فترات إنقطاع الكهرباء العادية، فإن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي رأت بأن هذه الإنقطاعات تمثل تهديداً للأمن القومي. للحفاظ على الأضواء مشعّة، وإخماد أي إضطرابات محتملة، فقد حوّلت القاهرة الطاقة من المناطق الصناعية إلى المناطق السكنية، ووقّعت صفقات مُكلفة لإستيراد الغاز الطبيعي المسال، وراكمت ديوناً متزايدة متوجبة لشركات النفط والغاز الأجنبية.
نظراً إلى هذه الخلفية القاتمة، فإنه ليس من المستغرب أن أحد السياسيين المصريين وصف إكتشاف حقل “زهر” ب”هبة من الله”. ويضيف الحقل البحري الجديد إحتياطات الغاز الموجودة في مصر بحوالي 40 في المئة. وتخطّط شركة “إيني” لتسريع تطوير الحقل، مع تحديد موعد بدء الحفريات في العام 2016 والإنتاج في العام 2017، مما يضع مصر على الطريق الصحيح لتصبح دولة مستقلة في مجال الطاقة بحلول العام 2020. ونظراً إلى أن تكاليف التطوير منخفضة نسبياً ووفرة البنية التحتية القائمة، فإن الإنتاج يمكنه المضي قدماً في وقت يشهد إنخفاض أسعار المواد الهيدروكربونية.
الواقع أن مصر تواجه خياراً بشأن ما إذا كان يجب محاولة إستخدام موارد “زهر” لتأكيد مكانتها في أسواق التصدير أو ببساطة الحفاظ على الغاز للإستخدام المحلّي. وليس من المستغرب، عند هذه النقطة، أن يقع خلاف بين مصر و”إيني”. فقد أكد المتحدث بإسم وزارة النفط المصرية حمدي عبد العزيز أن “كل الإنتاج سوف يذهب إلى الإستهلاك الداخلي”. ولكن الرئيس التنفيذي ل”إيني” كلاوديو ديسكالزي أفاد بأن الحقل قد يوفّر أيضاً خيارات عرض جديدة لأوروبا.
الخيار المحلي لديه العديد من المزايا. بخلاف الحاجة إلى بناء خط أنابيب جديد من الحقل إلى السواحل المصرية، فإن متطلبات البنية التحتية للإستهلاك المحلي تكاد تكون معدومة، مما يسمح لمصر بنقل الغاز إلى السوق عاجلاً. إن الناتج من “زهر” سوف يوفّر على مصر على الأقل ملياري دولار سنوياً في واردات الوقود ويساعد على سداد ديون البلاد. إن تحسين أمن الطاقة يجب أن يساعد على زيادة الإستقرار السياسي في الداخل. مع ذلك، فإن إغراء التصدير سوف يكون من الصعب على مصر أن تتجاهله، مع توقع أن يتجاوز إنتاج “زهر” الطلب المحلي بحلول العام 2020. وعند هذه النقطة، سوف تبدأ “إيني” أيضاً في رؤية سوق التصدير المُحتملة بأنها أكثر ربحاً.
مع ذلك، في تناقض مع الخيار المحلي الرخيص والسريع، فإن إيصال الغاز إلى الأسواق الأوروبية يتطلب إستثمارات كبيرة في البنية التحتية. لا يوجد هناك حالياً أي خطوط أنابيب تربط مصر مع برّ أوروبا، وأنابيب جديدة، يفترض أن تمر عبر تركيا، سوف تحتاج إلى المرور من خلال المياه المتنازع عليها جزئياً. البديل هو إعادة فتح مرافق شحن الغاز الطبيعي المسال النائمة في مصر. إن تصدير الغاز من طريق البواخر سيمنح مصر مزيداً من المرونة بالنسبة إلى طرق التصدير والوجهات، ولكن التكاليف المضافة لتسييل الغاز الطبيعي والتخزين والنقل وإعادة التغويز يمكن أن تجعل أسعار الغاز المصري أقل قدرة على المنافسة، خصوصاً ضد الغاز الروسي الرخيص في أوروبا. حتى لو تمكّنت من التغلب على هذه التحديات، فإن مصر ستجد نفسها تدخل سوقاً دولية مكتظّة بالفعل، في أعقاب الإكتشافات الجديدة في الولايات المتحدة، ورفع العقوبات المفروضة على إيران، ومنافسة قوية من اللاعبين الإقليميين الرئيسيين مثل قطر.

خطة إسرائيل البديلة

إذا كان هذا الإكتشاف يشكّل خبراً جيداً بالنسبة إلى مصر، فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى إسرائيل. قبل إكتشاف “زهر”، كانت تل أبيب قد وقّعت خطاب نوايا لتصدير حوالي ربع إنتاج “تمار” ونسبة كبيرة من “الطاغوت” إلى محطتين للغاز الطبيعي المسال في مصر وصفقة أخرى لتوفير الغاز للشركات الصناعية المصرية. كان من المفترض أن تساعد هذه الصادرات في دفع التنمية لحقل “الطاغوت”، والتي ظلت معلَّقة منذ العام 2010 بسبب التنظيم والجمود السياسي في الدولة العبربة. وقد جعل “زهر” مثل هذه الخطط في الغالب موضع نقاش، تاركاً إسرائيل مع سوق أقل لصادراتها، وربما منافسة إقليمية جديدة.
وهكذا فقد بدأت تل أبيب تهرول إلى خطة بديلة لتصدير الغاز الطبيعي المسال بواسطة السفن إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية، ولكنها سوف تكون بحاجة الى الوصول الى مرافق لتسييل الغاز، مثل تلك الموجودة في مصر. ولكن إذا قررت القاهرة تصدير الغاز الخاص بها بعد تلبية الطلب المحلي في العام 2020، فإن محطتي الغاز الطبيعي المسال لديها سوف تعملان في حينه بكامل طاقتهما، الأمر الذي يزيل هذا الخيار أمام إسرائيل. من جهة أخرى، إن الثمن المرتفع لبناء منشآت غاز طبيعي مسال جديدة من الصفر في إسرائيل من المرجح أن يردع بناءها بأسعار النفط الحالية. البديل هو بناء خط أنابيب غاز إلى أوروبا عبر تركيا. إن هذا الطريق يحتاج إلى المرور عبر المياه القبرصية، ولكن قبرص عارضت حتى الآن هذا الخيار بسبب التوترات المستمرة مع أنقرة.

الجزيرة المُنقسمة

قبرص أيضاً، تعيش بدورها وقتاً عصيباً لجلب غازها البحري إلى السوق. لقد أدت الأزمة المصرفية في العام 2013 إلى تباطؤ الإستثمارات، وركّزت نيقوسيا إستراتيجيتها لتطوير حقل “أفروديت”، حتى أخيراً، على الصادرات المصرية. في شباط (فبراير) 2015، وقعت قبرص إتفاقاً أوَّلياً لتوصيل الغاز البحري إلى مصر عبر خط أنابيب جديد تحت البحر، حيث كان من المتوقع أن تبدأ الصادرات بواسطته في العام 2022. وقد أدى إكتشاف “زهر” إلى إزالة فعلية لهذا الخيار من لائحة الدراسة.
بالنسبة إلى الخطة البديلة، فأمام قبرص إحتمالان. أولاً، يمكنها تطوير منشآت الغاز الطبيعي المسال بالإشتراك مع إسرائيل، ولكن الجدوى الإقتصادية لمثل هذا المشروع لا تدعو إلى التفاؤل في ظل ظروف السوق الحالية. بدلاً من ذلك، يمكن أن تبيع قبرص الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب عبر تركيا. ولكن هنا، أيضاً، هناك مشاكل. إن شمال قبرص، الذي تحتله تركيا منذ العام 1974، يدّعي الملكية المشتركة للموارد الطبيعية في الجزيرة. رسمياً، لا تعترف تركيا بالحدود البحرية لقبرص، وقد تحدّت مطالبة نيقوسيا وحقها في حقل “أفروديت”. إن آفاق طريق شمالي — وأي تجارة مع تركيا — يعتمد على ما إذا كانت المحادثات الجارية بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك ستؤدي إلى إعادة توحيد الجزيرة.

سوق موسكو

أنعش إكتشاف “زهر” الآمال في بعض الدوائر الغربية بأن خيارات العرض الجديدة يمكن أن تساعد أوروبا على تقليل الإعتماد على الطاقة من روسيا، التي شكلت صادراتها في العام 2013 نسبة 71 في المئة من واردات الغاز إلى أوروبا الوسطى والشرقية. مثل هذه النتيجة غير مُرجَّحة. في ظل السيناريو الأكثر تفاؤلاً، فإن الغاز المصري لن يصل إلى السوق الأوروبية قبل سبع إلى عشر سنين أخرى. حتى ذلك الحين، فإن مصر لن تكون قادرة على زعزعة هيمنة السوق الروسية. مع إجمالي إحتياطات غاز مؤكدة تبلغ 1680 تريليون قدم مكعبة، فقد صدّرت روسيا حوالي 5 تريليونات قدم مكعبة إلى أوروبا في العام 2014 وحده. لا يمكن لمصر أن تنافس على هذا نطاق ما لم يتم العثور على كميات من الغاز أكبر بكثير.
على الرغم من أن موسكو لا ترى أن الإكتشاف المصري يمثّل تحدياً كبيراً لإستراتيجيتها في مجال الطاقة في أوروبا، فإن “زهر” يؤثر فيها بطرق أخرى أكثر محلية. جنباً إلى جنب مع إسرائيل وقبرص فإن روسيا أيضاً ستخسر سوقاً لتصدير غازها، بعد أن وقعت أخيراً إتفاقاً لنقل 3.5 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال إلى مصر لأكثر من عامين. لكن إهتمام روسيا في سوق الطاقة المحلية في مصر يصل إلى ما وراء الغاز الطبيعي المسال. في أواخر آب (أغسطس)، أعلن بوتين عن مشاركة بلاده في بناء محطة للطاقة النووية في مصر، وشركات الطاقة الروسية قد تتطلع إلى عقود لتشييد خط أنابيب تحت البحر للمساعدة على إيصال الغاز المصري إلى الشاطئ. ولأن القوى الغربية تفرض عقوبات على روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا، فإن موسكو تنشط بمغازلة مصر كشريك إقتصادي وعسكري محتمل. من المرجّح أن يعزّز الإكتشاف الجديد هذا النهج بدلاً من عرقلته.

أخبار سارة

كانت الولايات المتحدة لاعباً صغيراً نسبياً في شؤون شرق البحر الأبيض المتوسط ​​الحالية. tبعدما قام السيسي بخلع محمد مرسي في إنقلاب عسكري في العام 2013، إبتعدت واشنطن عن الحكومة المصرية  إلى حد ما، وقضت السنوات القليلة الماضية مشغولة مع تحديات أخرى، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي أعلن دولته وعيّن خليفة عليها في العراق وسوريا، والتدخل الروسي في أوكرانيا. وعلى الرغم من هذا الإنفصال النسبي، فإن الأحداث الأخيرة ستكون لها تداعيات مهمة على المصالح الأميركية في المنطقة، وغالبيتها إيجابية جداً.
أولاً، إن إكتشاف حقل “زهر” يعزز إلى حد كبير أمن الطاقة في مصر وقدرة القاهرة على توفير السلع العامة للسكان المضطربين. من طريق الحد من إحتمالات الإضطرابات الإجتماعية بسبب إنقطاع الكهرباء وما ينتج منها من صدمات إقتصادية، يمكن أن تساعد الإمدادات الجديدة للطاقة المحلية مصر في مواجهة التمرد الإسلامي المتزايد في شبه جزيرة سيناء بشكل أكثر فعالية، وتصبح في نهاية المطاف مصدّراً صافياً للأمن في المنطقة.
ثانياً، على الرغم من أن “زهر” يمثّل إنتكاسة لإستراتيجية الطاقة في إسرائيل، فإن آفاق الطاقة على المدى الطويل لا تزال جيدة لتل أبيب. إن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى منشآت الغاز الطبيعي المسال المصرية كان إقتراحاً مثيراً للجدل منذ البداية، وحتى لو أن غاز حقل “الطاغوت” سيخدم فقط السوق المحلية الإسرائيلية، فإنه لا يزال يضمن إستقلال إسرائيل في مجال الطاقة لعقود عدة مقبلة.
ثالثاً، إن إكتشاف “زهر يخلق حوافز إقتصادية قوية لإعادة توحيد قبرص. مع الصادرات إلى مصر لم تعد على الطاولة، فإن قدرة نيقوسيا على تطوير حقل “أفروديت” يعتمد أكثر من أي وقت مضى على التقارب مع تركيا وشمال قبرص. إذا نجحت محادثات إعادة التوحيد، فإن قبرص من المرجح أيضاً أن ترفع معارضتها لمسار خط الأنابيب تحت البحر إلى تركيا من إسرائيل أو مصر. حتى لو كان غاز شرق البحر المتوسط ​​ليس كافياً لتعويض هيمنة روسيا على السوق، فإن احتمال وصوله إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا سيكون نعمة لجميع الأطراف المعنية، حيث سيخلق أصحاب مصلحة إضافيين لقبرص موحدة.
وأخيراً، إن حجم ودائع الغاز المصري الجديدة هو تطور واعد للغاية للتنقيب عن الغاز في المستقبل في شرق البحر المتوسط. فإن إمكانية إكتشافات جديدة للنفط والغاز في المنطقة ستمكِّن الدول المطلة من تلبية إحتياجاتها للإستهلاك المحلي بطريقة أكثر سهولة، في حين ستضع مزيداً من الضغط الهبوطي على أسعار الطاقة العالمية. إن مستقبل وفرة الطاقة قد يطرح تحديات ذاتية، لكنه في كل الأحوال خبر سار للإستقرار الإقتصادي والسياسي في المنطقة. ينبغي على واشنطن أن ترحّب بإكتشاف حقل “زهر”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى